لفهم الوضع في سوريا بشكل أعمق، نحن في حاجة الى تحليل أهداف الأطراف المختلفة المتداخلة والفاعلة في الواقع السوري، وغاياتها الاستراتيجية في ضوء المصالح الجيوسياسية والأيديولوجيات التي تحركها، مستعينين في ذلك بآراء مفكرين وسياسيين تُساعدنا على تفكيك هذا المشهد المركب والوقوف على أبعاده:
• أهم الفاعلين في اعتقادنا هي تركيا، فتحت قيادة رجب طيب أردوغان، تسعى تركيا إلى بسط نفوذها عبر دعم أبو محمد الجولاني وفصائل أخرى من المعارضة المسلحة. هذا التحرك ينسجم مع ما وصفه المفكر أحمد داود أوغلو بـ”العمق الاستراتيجي”، حيث تعتبر تركيا أن سوريا جزء من أمنها القومي. بالإضافة إلى ذلك، ترى تركيا أن منع قيام كيان كردي جنوب حدودها مسألة وجودية، خصوصًا مع استحضار تاريخ النزاع الكردي التركي الذي يمتد لعقود.
• ثاني الفاعلين اهمية هي قطر التي تنحاز صراحة إلى الموقف التركي بدوافع أيديولوجية واستراتيجية. فهي، كما يشير الباحث عزمي بشارة، لا تُخفي مواصلتها تعزيز دعمها للإخوان المسلمين تحديداً وللاسلام السياسي بشكل عام كجزء من مشروع سياسي يسعى لخلق توازن قوى في المنطقة يحفظ لها أسباب القوة الناعمة. أما استراتيجياً، فقطر تسعى إلى إعادة إحياء مشروع خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر سوريا إلى أوروبا، وهو مشروع تم تعطيله بسبب الموقف السوري المؤيد لخط أنابيب منافس مدعوم من إيران وروسيا.
• ثالث الفواعل أهمية هي الولايات المتحدة الامريكية الذي يبدو أنها تعيد صياغة أولوياتها في المنطقة في ضوء توافق ضمني ( أو سرّي في اطار صفقة ما) مع روسيا. ووفقًا للمقاربة البراغماتية لهنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الامريكي الراحل، يبدو أن موسكو قد تخلت عن بشار الأسد في إطار صفقة تسمح لها بالاحتفاظ بمصالحها الحيوية في سوريا، في مقابل خفض الولايات المتحدة لدعمها العسكري والسياسي لأوكرانيا. هذا التوجه يعكس إعادة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى دون الدخول في صراعات مباشرة.
• الفاعل الرابع هي إسرائيل، فوفقًا لتحليل البروفيسور والمؤرخ الاسرائيلي إيال زيسر، فإن اسرائيل تعمل على تحقيق مكاسب استراتيجية تدريجية في سوريا، مستغلة ضعف الدولة المركزية هذا فضلا على مكاسب اكبر في حال انهيارها وانتشار الفوضى فيها. وهي تراهن على تحالفات ضمنية وصفقات مع الأكراد الذين تربطهم علاقات غير معلنة بإسرائيل، بهدف تأمين موطئ قدم دائم لها في شمال شرق سوريا مثلما هو الحال شمال العراق.
• الفاعل الخامس هي إيران، التي تمر بأزمة اقتصادية وسياسية خانقة، وتبدو مضطرة لتقليص دعمها التقليدي لحلفائها، مثل حزب الله في لبنان ونظام الأسد في سوريا، أملاً في الحفاظ على برنامجها النووي. هذا الموقف يعكس مقولة الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان حول “الأولوية الوجودية على الأيديولوجيا”، إذ تحاول طهران إنقاذ مشروعها الأساسي في مواجهة الضغوط الدولية، لذلك لا ترى إيران مانعا أو حرجا في تغيير اولوياتها بما في ذلك التخلي على حلفائها اذا كانوا يشكلون خطرا على اهدافها الاستراتيجية، والايرانيون مشهورون بقدرتهم على التفاوض وعقد الصفقات.
أما أوروبا، فتقف بين اعتبارات طويلة المدى وأخرى قصيرة المدى. فعلى المدى الطويل، فإن من شأن مشروع خط الأنابيب القطري أن يقلل من اعتمادها على الغاز الروسي، كما أشار تييري ميسان الصحفي والباحث في الشؤون الاستراتيجثة. ولكن على المدى القصير، تبدو أوروبا مجبرة على التضحية ببعض الدعم لأوكرانيا والتقليص من دعمها لها، مع الاستفادة داخليًا من مغادرة اللاجئين السوريين وعودتهم الى سوريا وهو ما قد يعزز شعبية الحكومات الشعبوية.
هذا المشهد، بكل تناقضاته، يعكس في الحقيقة فراغا في القيادة الإستراتيجية في العالم العربي. فنحن بحاجة إلى شخصيات تمتلك رؤية شاملة ونظرة ثاقبة ذات ابعاد استشرافية، مثل الحبيب بورقيبة، الذي فهم تعقيدات المشهد الدولي في عصره واستطاع أن يوازن بين الواقعية السياسية والطموح الوطني.ومثلما قال مالك بن نبي فإن “الأزمات لا تصنع العظماء، لكنها تكشف الحاجة إليهم”. وعلينا في النهاية، ومن اجل فهم اكثر وضوحا واكثر قربا لحقيقة تعقيدات الوضع الحالي في سوريا، أن نستحضر أمثلة القادة الذين قرؤوا العالم بعين ثاقبة واستشرفوا مستقبله بجرأة وحكمة، لأن ما يحصل في سوريا ستكون له تداعيات أخرى و”كرة الثلج ستظل تتدحرج”.
برافو استاذ